الحمدُ للهِ، وسلامٌ على عباده الذين ٱصطفى، أما بَعْدُ:
فإنَّ من أوسع أبواب علم الرسم العثماني باب الحذف، وأكثر ما حُذِفَ من الحروف: الألف والياء والواو، وقد تَكَفَّلَتْ كتبُ علم الرسم بتفصيل ذلك، واعتنى علماء الضبط ببيان كيفية الإشارة إلى المحذوف من الحروف من الرسم في المصاحف، وخصصوا فصلاً في كتبهم عن كيفية نقط ما نَقَصَ هجاؤه، وتفاوتت طرق الخطاطين وكُتَّابِ المصاحف في تطبيق ذلك عبر العصور.
وهذه المقالة مخصصة لتلخيص أقوال علماء الضبط في كيفية ضبط ما نَقَصَ هجاؤه، وبيان كيفية تطبيق ذلك في المصاحف المخطوطة والمطبوعة، وسوف أقتصر على أحد الحروف الثلاثة، وهو الألف، لأنه أكثر الحروف الثلاثة مَظِنَّةً لوقوع التقصير فيه. وذلك من خلال ثلاث فقرات:
أولاً: في ذكر أقوال علماء النقط والشكل في ضبط ما نقص هجاؤه.
ثانياً: ضَبْطُ ما نقص هجاؤه في المصاحف المخطوطة.
ثالثاً: ضَبْطُ ما نقص هجاؤه في المصاحف المطبوعة.
وبالنظر لكثرة المصاحف المخطوطة والمطبوعة فإني سوف أقتصر على نماذج قليلة من أشهر المصاحف، توضح ما نحن بصدد الحديث عنه، عسى أن يستفيد منها خطاطو المصاحف والمشرفون على طباعة المصاحف، والله تعالى ولي التوفيق.
أولاً: ذِكْرُ بعض أقوال علماء النقط والشكل في ضبط ما نَقَصَ هجاؤُهُ
حَرَصَ علماء الضبط على التنبيه على وضع علامة تدل على المحذوف من الحروف في الرسم، وعقدوا فصلاً لذلك، سَمَّوْهُ: (باب نَقْطِ ما نَقَصَ هجاؤُه)[1]، قال الداني: "تُلْحَقُ الألفاتُ المحذوفاتُ من الرسم بالحمراء ... وكذا تُلْحَقُ الياءاتُ المحذوفةُ على قراءة مَن أَثْبَتَهُنَّ في الوصل دون الوقف، أو في الوصل والوقف"[2].
وقال ابن وثيق الأندلسي: " ومما يتعلق بالضبط أيضاً تصوير ما حُذِفَ من الحروف بالحمرة، من ذلك كُلُّ أَلِفٍ حُذِفَتْ من الخط وهي ثابتةٌ في اللفظ، فإنها تُصَوَّرُ بالحمرة في موضعها لو كانت ثابتة ... ومن ذلك كُلُّ واوٍ حُذِفَتْ من الخط ... ومن ذلك كُلُّ ياءٍ حُذِفَتْ من الخط"[3].
ونَبَّهَ أبو داود سليمان بن نجاح في كتابه (مختصر التبيين) على ترك فُسْحَةٍ لموضع الحرف المحذوف، لرسمه بالحمرة في ذلك الموضع، فقال: "ويحتاج الناسخ لكل مصحف يضبطه أن يترك لموضع الألف والياء والواو، في كل ما ذكرناه وشِبْهِهِ، فُسْحَةً[4]، نَحْوُ: يـٰآدَمُ، ويـٰأيُّها، ويـٰنوح ... وشِبْهِهِ مما حُذِفَتْ منه الألفُ، والياءُ، والواوُ ... فَقِسْ على هذا كله، وٱهْتَدِ به، فهو مِن كمال الناسخ، ومِن مُؤَكَّدِ ما يحتاج إليه الضابط، وإلَّا لم يَتِمَّ له المراد ولا استبان"[5].
وكَرَّرَ أبو داود تنبيهه على ذلك في موضع آخر من الكتاب، حيث قال وهو يتحدث عن رسم قوله تعالى: (لَيَؤُوس) [هود:9] بواو واحدة: " فيحتاج الناسخ، أَنْ يراعيَ هذا الباب كُلَّهُ حَسَبَ ما بيَّناه في أول كتابنا هذا، ويترك فُسْحَةً مكان الهمزة وحركتها، وأَلَّا يَقَعَ في حَرَجٍ، ويُوقِعَ غيرَه في أعظم من ذلك إذا كان جاهلاً بالخط، أو مستهزئاً بالأمر، وغيرَ مُرَاعٍ لِمَا يَجِبُ عليه".
ووَجَدَ تنبيهُ هؤلاء العلماء صداه في المصاحف المخطوطة والمطبوعة، وذَهَبَ جمهور علماء الرسم والضبط إلى تدارك ما نَقَصَ هجاؤه من دون تغيير في رسم الكلمات، وذلك بإلحاق المحذوف بلون مخالف للون الكتابة، والغالب بلون الحمرة، أو بإلحاقه بحجم صغير على طريقة العلامات الكتابية.
ثانياً: ضَبْطُ ما نَقَصَ هجاؤُهُ في المصاحف المخطوطة
كانت المصاحف الأولى مجردةً من النقط والشكل، وقد ٱلْتَزَمَ خطاطو المغرب والأندلس وكثير من خطاطي المشرق بالرسم العثماني في كتابة المصاحف، وبعد ٱختراع النقط والشكل وٱستعماله في المصاحف أَثْبَتَ النُّسَّاخُ الحروف المحذوفة من الرسم بالحمرة، تمييزاً لها عن الحروف المرسومة في أصل الرسم العثماني، وقد أثبتها بعضهم بحجم صغير بلون مداد الكتابة، لكن من غير أن تتصل بحروف الكلمات، وإنما على طريقة وضع علامات الحركات.
وهذه صحيفة من مصحف إشبيلية (خط 624هـ)، ومصحف الحلبي (خط 790هـ)، وقد رُسِمَتْ فيهما الألفات بالحمرة:
صحيفة من مصحف إشبيلية 624هـ
جزء من صحيفة من مصحف الحلبي 790هـ
ورَسَمَ بعض الخطاطين المتأخرين الألفات المحذوفة بمداد الكتابة، وليس بالحمرة، كما نجد ذلك في مصحف علي القاري الذي كتبه سنة 999هـ، وهذه صورة سورة الكافرون في المصحف:
ونجد ذلك أيضاً في أحد مصاحف الخطاط التركي حافظ عثمان قايش زاده (خط سنة 1309هـ)، وهذه صورة أول سورة البقرة في المصحف:
ثالثاً: ضَبْطُ ما نَقَصَ هجاؤه في المصاحف المطبوعة
أَحْدَثَ ظهور الطباعة الآلية تأثيراً كبيراً في تيسير نشر المصاحف، لكن المصاحف المطبوعة في المراحل المبكرة للطباعة كانت تفتقر إلى استعمال الألوان في بعض علامات الضبط، ومنها وَضْعُ الألفات المحذوفة في أماكنها بالحمرة، فلجأ المشرفون على طباعة المصاحف إلى التنبيه على ذلك في خاتمة المصحف.
وجاء في خاتمة المصحف الأميري المطبوع في مصر سنة 1342هـ عند ذكر الحروف الصغيرة الدالة على أعيان الحروف المحذوفة ما صورته:
وبعدَ تَقَدُّمِ وسائل الطباعة، وتيسر ٱستعمال الألوان المتعددة في طباعة المصحف جرى نقاش حول إثبات الألفات المحذوفة بالحمرة، رجوعاً إلى الأصل في ضبطها، لكن اللجنة العلمية المشرفة على طباعة مصحف المدينة النبوية أشارت في الطبعات الأخيرة إلى ضرورة إبقاء تلك الألفات صغيرة باللون الأسود، لاعتياد قراء المصحف عليه، فقد جاء في خاتمة مصحف المدينة النبوية المطبوع سنة 1428هـ، ما نصه:
وهناك مصاحف حديثة طُبِعَتْ باستعمال الحمرة في رسم الألفات المحذوفة من الرسم، مثل مصحف الواثق باللَّه المطبوع في بروناي سنة 1427هـ = 2006م برواية حفص عن عاصم، وهذه صورة صحيفة سورة الفاتحة في المصحف:
ومنها المصحف المطبوع في المغرب في مطبعة وراقة الفضيلة بالرباط سنة 2023م، برواية ورش عن نافع، وهذه صورة سورة الفاتحة في المصحف المذكور:
وسواءٌ رُسِمَتْ تلك الألفات بالحمرة أو بالسواد فإن المسألة الأهم فيها هو وضعها في مكانها المناسب، وترك فُسْحَةٍ لها بين الحروف التي تكتنفها، وثمة منهجان للخطاطين للمصاحف المطبوعة، الأول: يترك فسحة للألفات المحذوفة في موضعها من الكلمات، والثاني لا يهتم بترك تلك الفسحة، وقد تتحقق وقد لا تتحقق، بحسب ما يتيسر للخطاط، أو بحسب ما تمليه عليه قوانين صناعة الخط.
ومن المصاحف التي ٱعْتَنَتْ بترك تلك الفُسْحَةِ المصحف الأميري المطبوع بالقاهرة سنة 1342هـ، وهو من أول مصحف أشرفت على إعداده وطبعه لجنة علمية متخصصة، وهذه صورة أول سورة البقرة في المصحف:
وثمة مصاحف حديثة مطبوعة لم يلتزم خطاطوها بوضع الألفات المحذوفة في مواضعها، في جميع المواضع، وذلك بترك تلك الفسحة للحرف المحذوف، ومن تلك المصاحف مصحف دولة قطر، المطبوع سنة 1430هـ، وهذه صورة صحيفة أول سورة البقرة في المصحف:
ويلاحظ المتأمل في طريقة وضع الألفات الصغيرة في الصفحات السابقة وجود تفاوت بينها، ولكي تتضح طريقة إثبات تلك الألفات في المصاحف المذكورة أضع صور الكلمات التي وردت فيها الألفات المحذوفة في هذا الجدول:
إن ترك الفُسْحَةِ للألفات المحذوفة من الرسم العثماني أمر ينبغي على الخطاطين والقائمين على طباعة المصاحف الحرص عليه، وتحقيق ذلك ليس بالأمر الصعب، وسوف يُضْفِي على رسم المصحف وضبطه دقة وجمالاً، وهذا مثال تطبيقي يوضح ذلك:
وأشهر المصاحف الحديثة المطبوعة هو مصحف المدينة النبوية، وقد رُوعِيَ فيه ترك فُسْحَاتٍ للألفات المحذوفة بشكل عام، لكن بعض الكلمات تبدو من غير فسحة، أو بنصف فسحة، كما في الكلمات العشر الآتية في المصحف (طبعة 1439هـ)، مع صورتها في المصحف الأميري، وما سواها كثير:
وفي الختام:
ثَمَّةَ تساؤلٌ عن سبب عدم اطراد ترك الفسحة للألفات المحذوفة في بعض المصاحف، مثل مصحف دولة قطر، ومصحف المدينة النبوية: هل هو خاضع لتقاليد خط النسخ المرقوم به المصحف، أو هو اجتهاد من الخطاطين؟
فإن كان ذلك خاضعاً لتقاليد خَطِّ النَّسْخِ فإن إخضاع الخط لقواعد الضبط أولى من إخضاع قواعد الضبط لتقاليد الخط، ويلزم حينئذ تطويع قواعد خط النسخ لتتوافق مع متطلبات قواعد الرسم والضبط المصحفي، كما هو معمول به في المصحف الأميري وغيره من المصاحف، ومن المقبول أن يكون لدينا نوعان لخط النسخ: خط النسخ المصحفي، وخط النسخ الفني، وآمل أن يكون هذا المقترح مقبولاً لدي خطاطي المصاحف الذي يُغَلِّبُونَ تقاليد الخط على قواعد الضبط.
وسواء كان السبب هذا أو ذلك فإن مراعاة ترك الفُسْحَةِ في جميع المواضع هو الأَوْلَى، وتتحقق من خلاله عدة أمور:
الأول: متابعة ما اختاره علماء الضبط ونَصُّوا عليه من وجوب ترك الفُسْحَةِ.
الثاني: التناسب والتشاكل في الرسم والضبط أمر مطلوب في الظواهر المتشابهة.
الثالث: وضوح ضبط تلك الألفات، وتيسير القراءة على القارئ.
هذا، والله تعالى أعلم، وهو ولي التوفيق.
[1] ينظر: الداني: المحكم ص 302، وأبو داود: كتاب أصول الضبط ص 191.
[2] المحكم ص 313-314، وينظر: أبو داود: كتاب أصول الضبط ص 175.
[3] الجامع لِمَا يُحْتَاجُ إليه من رسم المصحف ص 238-239.
[4] الفُسْحَةُ في اللغة السَّعَةُ الواسعة من الأرض، (ينظر: لسان العرب 2/543). ويقصد بها هنا إطالة رسم المطة التي توضع عليها الألف الصغيرة الملحقة عوضاً من الألف المحذوفة.
[5] مختصر التبيين 2/36-41.